الأستاذ/محمد غالاي انجاي
إن القصيدتين اللتين سنعرضهما بــرُمَّـتهما فيما يلي هـما اثنتان من جملة تلك القصائد العديدة الـمُلفَّقة التي نسجتها عناكب الاستعمار الغاشم بـهدف إظهار ترحيب بعض الزعماء الأفارقة الكبار بالاستعمار وخضوعهم الكامل له، وأيضا بـهدف إبراز أن الاستعمار كان خيرا مـحضا للشعوب الأفريقية الـمستذلة. وهـما منسوبتان ظلما وافتراءً إلى مؤسس الـحركة الـمُريدية الشيخ أحـمد بـمبا البكي الذي اشتهر بـمناوأته الشديدة للاستعمار.
ونـحن إذ نسوق – هنا – هاتين القصيدتين ونقوم بـمعالـجتهما بشيء من الإسهاب، فإنـما نريد أولا أن نفضح بهما بعض الوسائل والأساليب السَّافرة التي لـجأت إليها السُّلطات الاستعمارية الفرنسية لترويج فكرة خاطئة تـماما، تُفيد أن العلماء والصفوة من القادة الأفارقة جميعا بدون استثناء قد خضعوا للاستعمار ورحبوا كل الترحيب بـمجيئه وأن لولاهم لاستمرت الـمصيبة تحل على الأفارقة بسبب ما كانوا يعانون منه من ظلم وجور واستبداد من قبل الأرستقراطيات المحلية الـجائرة التي كانت سائدة آنئذ قبل وصولـه. وما كانت هذه السلطات لتلجأ إلى هذه الأساليب والوسائل لو لم تيأس من نـجاح مشروعها وتـمكينه بسهولة في عقول هذه الشعوب الـمستعمرة المستذلة. والحق أن الأفارقة، وإن كانوا قد عانوا بشدة من جور الأمراء الـمحليين، فإن النصارى الـمستعمرين لـم يكونوا بأفضل من هؤلاء الأمراء، بل كل ما في الأمر هو إحلال شر مكان شر، إن لـم يكن مجيء الاستعمار، في واقع الأمر، أشد وأكثر ضررا على الأفارقة.
وثانيا أن نشاطر القراء تأسفنا الشديد لما شاهدنا في العقدين الأخيرين من وقوع بعض الباحثين – الذين لا يشك أحد في باعهم الطويل في الدراسات الاستعمارية – في أخطاء يـمكن تفسيرها بغياب الانتباه الكافي والغربلة اللازمة فيما يـختص بالوثائق الاستعمارية. فكاتب مثل بول مارتي مثلا لا يـجب على الباحث النبيه أن يُسلِّم بما يعرض في كتبه ويتلقاه بالقبول كما يتعامل مع أي باحث أكاديمي آخر. ذلك لأن بول مارتي أحدُ أذناب الاستعمار ومُوظَّفيه، لقد كرس كل جهوده لـخدمة الأهداف الاستعمارية. فهو إذن عميل وموظف وليس كاتبا حرا.
§ القصيدة الأولى: مدحٌ للحاكم الفرنسي العام وِلْــيَــامْ بُـــنْـتِ[2] (William Ponty) وزوجته التي لـم تُصرِّح القصيدة باسـمها، بل اكتفت بـــ "مَـــدَمْ بُـــنْتِ" (Madame Ponty). ولقد قامت السلطات الاستعمارية الفرنسية بنشرها عام 1915م على صفحات مـجلة شهيرة ومعروفة في العهد الاستعماري، اسـمها (La revue du monde musulman) "مـجلة العالـم الإسلامي" الناطقة بالفرنسية.[3] وتجدر الإشارة أن هذه المجلة مجلة استشراقية استعمارية أنشأها "لُو شَاتَلِيِيهْ" (Le Chatelier) عام 1906م، وعاشت إلى عام 1926م. وكانت تدعمها ماديا وزارة التعليم العام الفرنسية لـخدمة أهداف الاستعمار. وتعادلها في العالـم الأنجلوفوني مجلة "العالم الإسلامي" (The Muslim World) التي أنشأها صموئيل زويـمر«S. Zweimer» في سنة 1911م.
وقد أورد الكاتب الوثائقي عُمر بَاهْ في كتابه الـمعنون بـ «أحـمد بـمبا والسلطات الاستعمارية (1889-1927م)» "العلاقة الـحميمة" التي كانت تربط وِلْــيَــامْ بُـــنْـتِ بالشيخ أحمد بـمبا، كما ذكر أيضا مناسبة القصيدة دون أن يُـفنِّد نسبتها إلى الشيخ أحـمد بـمبا. يقول عمر باه:
«بـما أن الـحاكم العام بُـــنْتِ يُعتبر من أندر رجال السلطات الاستعمارية الذين فهموا وساندوا أحـمد بـمبا، فقد كان يـُحذِّر الإداريين الفرنسيين من سياساتـهم الـمبنية على الانفعال والشطط في تصرفاتـهم. ولـما سـمع أحـمد بـمبا بوفاة وِلْيَامْ بُـــنْتِ في 13 يونيو عام 1915م رثاه بقصيدة كشهادة له لتلك الـخدمات التي قدمها إليه الحاكم، وتبيانا للاحترام والتبجيل اللذين لـم يزل يُكِــنُّهُمَا له[4]».
ومما يُـــثـــيـر الدهشة والاستغراب هو أن قبل شروع الـمجلة في إيراد القصيدة مهدتـها بـجملة قصيرة نستشف منها الـمغزى الأيدلوجي الدنيء والـخسيس الذي من أجله تـمَّ افتراء هذه القصيدة. والـجملة هي كالتالي:
«نقدم هنا هذه القصيدة كشهادة صادقة وساذجة لشعور الشخصيات الأهلية (indigènes) التي تقربت زلفى إلى الحاكم العام وِلْـــيَـــامْ بُـــنْتِ».
§ القصيدة الثانية: عبارة عن ثناء ومدح لـمحاسن الدولة الاستعمارية الفرنسية، أوردها الضابط والـموظف الاستعماري الشهير بُولْ مَارْتـِــي في كتابه "الإسلام في السنغال[5]". وبسبب ندرة البحوث الأكاديـمية الـمكتوبة باللغات الأجنبية الـحية كالإنـجليزية والفرنسية في الدفاع عن الفكر الـمُريدي فقد تـمَّ ترويج نسبة هذه القصيدة، لدى الباحثين الغربيين، إلى الشيخ أحـمد بـمبا دون سابق تـمحيص أو غربلة!!! فمن الدراسات الـحديثة الـمتأخرة التي نسبت القصيدة إلى مؤسس الـمُريدية البحث الذي كتبه سيِّد بُوسْبِينَا عن الـحاج مالك سه وسلسلته في الطريقة التجانية ومواقفه تـجاه الدولة الاستعمارية الفرنسية. وهو بـحث جاء في كتاب ضخم مكتوب بالفرنسية.[6]
يقول الباحث بُوسْبِينَا بعد أن عرض رسالة[7] الـحاج مالك سه التي تتضمن موقفه الإيـجابي تـجاه الفرنسيين:
«مهما يكن من أمر، فإن الـحاج مالك سه لـم يكن الزعيم الديني الوحيد في السنغال الذي رحب بـمجيء الفرنسيين واعتبارهم السبب الكائن وراء التغير الإيـجابي الـحاصل في وضع البلاد. وحتى أحـمد بـمبا، بالرغم من أن الفرنسيين كانوا مشتبهين في أمره، تفوَّه بأقوال مـماثلة لأقوال الـحاج مالك سه[8]».
وقد أردف بوسبينا بعد هذا النص مباشرة القصيدة التي جاءت في كتاب بُولْ مَارتي الآنف الذكر: (أي قصيدة بُشرى لنا).
٭٭٭
وقد تصدى بالنقد والتفنيد لـهذه القصيدة الأخيرة (أي بُشرى لنا). أكثر من باحث في الوسط الثقافي الـمريدي، ونـخص منهم بالذكر الدكتور خديـم سعيد امباكي في كتابه "التصوف والطرق الصوفية في السِّنغال"، والأستاذ مصطفى جُوبْ الكُكِّي في بـحث له تـحت عنوان: "قراءة أركيولوجية (حفرية) في أرشيفات الـمستعمر: قصيدة بُشرى لنا لِــــبُـــولْ مَارْتِـــي نـموذجا[9]"، والأستاذ خديـم مصطفى عبد الرحـمان لوح في بـحثه الـمعنون بــ "نظرة حول النص الـملفق".
لقد أكد خديـم سعيد امباكي بصددها:
«غريب حقا أن ينطق شيخ مسلوب الـحرية مثل هذا الـهُراء. كيف يدَّعي بأن الإسلام حقق أهدافه وأن الـمسلمين بـخير وهو سجين الـمستعمرين وهم يـحاربونه وإخوانه في الدين بكل الوسائل؟ بل هذا الـهراء من صنع ذئب في ثياب الغنم، أحد أولئك الـخونة الذين باعوا دينهم بدنياهم فما ربـحت تـجارتـهم[10]».
«من الـمؤكد عندي أنه – كما أشيع خبر وفاة الشيخ أيام كان منفيا في "غابون" – فقد دسَّ أيضا الـمستعمر وأذنابه هذا النص بين مؤلفاته لأهداف كثيرة منها: الـحد من تأثيره الروحي، وزرع الشك والبلبلة بين صفوف الباحثين على الـمدى البعيد، بعد استنفاذ كافة الوسائل للقضاء عليه وعلى دعوته ؛ من إبعادٍ، وإقامةٍ جبرية، والتغرير بأنصاره، وتثبيط هـممهم. ولكن يبدو أن العبد الـخديـم رأى بنور ربه هذه الـمكائد وتنبه لـهذه الأخطار حيث قال:
بـــــــرأني القُدوسُ مِنْ كُلِّ تُــــهم | |
توفيق حافظ حماني عن وهم |
أما الأستاذ مصطفى جوب الككي فقد اعتنى أكثر بصب وابل من النقد على باحثين ينتميان إلى الطريقة التجانية الصُّوفية أوردا القصيدة وحاولا نسبتها إلى الشيخ أحـمد بـمبا، وهـما الدكتور عامر صَمْبَ في كتابه "الأدب العربي السنغالي"، والأستاذ بشير انغوم في رسالته الـجامعية (الـماجستير) تـحت عنوان "مدرسة تِيوَاوُونْ وجهودها في التصوف الإسلامي". فقد أتى الكُكِّي في بـحثه بـما يشفي العليل في دحض هذه الترهات التي لا تصمد حين توضع في مـحك النقد والتمحيص. ومن أحسن ما أثبته قوله:
«نـحن الأفارقة قد حاربنا "تُــبَابْ[14]" بالـمدافع والفؤوس حتى اندحر! ولـم يـجد وسيلة أخرى فزرع فينا كيف نؤمن بـما يكتبون رغم معرفتنا بأن شهادة العدو لاغية، أو بالأحرى لا أساس لـها. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نـجعل كتابات الـمستعمرين مراجع ننهل من معينها ومرآة نقرأ بواسطتها أمسنا ويومنا وقل غدنا، ويا له من مصيبة !!».
ويـجمل بنا، بعد هذا الاستعراض السريع، أن نشير هنا أيضا إلى أن جمعا غفيرا من الباحثين الـمُريدين قد ذهب إلى نسبة هذه القصيدة – الـمفتراة على الشيخ الـخديـم – إلى العالـم الكَجُورِي والشاعر الـمفلق القاضي مُوسَى مَـجَـخَـتِ كَـلَ (1835-1902م). ونـجد في مقدمة هؤلاء الشيخ الباحث مصطفى عبد الرحمان لوح (ت 2005م) حيث أكد أنـها من صُنع قلم القاضي النحرير مَـجَخَتِ كَلَ. وذلك أن القاضي كان قد هجا الأمير لاتـجور بقصيدة، وحين توعَّــده هذا الأخير، نظم القاضي قصيدة أخرى ينشد فيها مآثر لاتـجور ومناقبه وعدَّد فيها مثالب الـمستعمرين ونقائصهم.
وإليكم نبذة من القصيدة الأولى التي نظمها القاضي في هجاء الأمير لاتجور:
أصادق في ادعاء الدين لتجُور | |
مُرُوهُ يُذْعنْ ويخضَعْ كالملوك معا | وهل بِرازُ النصارَى البيضِ مَقدور |
ما اهتمَّ مُذ شب إلا باحتسَاء طلا | |
وهْو ينادي بأسماء المجوس إلى | |
حتى إذا اجتمعوا طرا رَموا فرموا | |
ها أنّ جند النصارى اليوم منصور | |
وأننا لا أرى إلا هزيمتنا | فجل جيشك مقتول ومأسور |
فثمَّ ولوهم الأدبار فانهزموا | |
وظن أنّ له منجا ومعتصما | |
فجاء بالدين حَلْقَ الرأس عُمْدَته | هل ذو حلاق بدون الحج مأجور |
حتى لقوه لدى يوم الخميس ضحى | |
كأن جيش النصارى في لقائهم | إذا بوار يلاقيها العصافير |
مثلا بمثل فقد حل القدير لهم | |
فللنصارى شؤون من عجائبهم | فلا تقل عوض إن أخبرتها زور |
لله درهم في كل معركة | أميرهم مستطير الشر محذور |
وإليكم أيضا نبذة من القصيدة الثانية التي نظمها القاضي في مدح لاتـجور بـهدف مصالحته لما سبق من هجائه له:
بـشرى لقد شاد دينَ الله (لتجُور) | فأُحْيِيَ اليوم بالإسلام (كَجُورْ) |
تلفيه يـــأمر بالمعروف عسكره | كــأنما جاءه من ربِّه النُّور |
وهل ترى ناديا فيه تمر به | إلا ويسمع تهليل وتكبير |
يروع أفئدة الأعدا كتائبه | كأنهم غنم للأسد مذعور |
فليدخل الناس طرا في طريقته | طوعا وإلا فسيف الموت مشهور |
علام قال النصارى (لا يزول لنا | ملك) وهل قولهم إلا أساطير |
مار النسور مرارا والضباع معا | منهم، وهل جمع أهل الشرك مكسور |
مازال يضربهم بالبيض يطعنهم | حيث الرصاص مع البارود منثور |
لم يشتك الجوع من نسر ولا ضبع | إلا وهامهم في البيد مجرور |
أقام سبعة أعوام يبارزهم | حتى رأوا أن جند الله منصور |
فحاولوا السلم منه قائلين له | (لك البلاد فهذا خذه كجور) |
تالله ما سالموا إلا لما عهدوا | |
لم يخف أنك يا ضرغام محذور | |
فلا يسؤك مدى الأيام أنهم | |
كم حاربوك حروبا لا يطيب لهم | نفسا وأنت قرير العين مسرور |
خالوك منزعجا إذ كنت ذا بعد | وإن ذاك مع الأكباش تأخير |
مُرْدٌ علامتهم حلف وتقصير | |
مثل الجراد بهم غص الفلاء وقد | غاظوا وغاروا كما قد فار تنور |
يبادرون حياض الموت قاطبة | شم العرانين أبطال مشاهير |
ينازعون جيادا في أعنتها | ترنو إليهم نساء الجنة الحور |
يمشي المشاة أمام الركب واحتفلوا | أقدامهم تشتكيها التل والغور |
لهم غبار يكاد الجو ممتلئا | منه إذا قلت فيهم آمرا (سِيرُوا) |
سيرتهم فاجدوا سيرهم وأتى | بهم سرى ثم إصعاد وتهجير |
يقودهم عمك المختار محتزما | كالليث ذي اللبد الشاكي أظافير |
وقد تلقاك بالتأمير أهل نهى | |
لله درك من جمع قوائله | باقي الثناء ليوم الدين مذكور |
هل تغضبن لقصيد قلته وجلا | عند العدى إن ذا الأوجال معذور |
لم أدر هل أنا تيس في السباع إذا | أم أنني بيد الصبيان عصفور |
والله يعلم أني لم أكن أبدا | |
وهم جحاش أتان بيننا نهقت | إذ أحدقوا لتداويهم بدكتور |
حمدا إذا ما النصارى أخرجوا فلنا | من بعدهم لديار الدين تعمير |
أخرجتهم بحروب ذكرها أبدا | باق بقاء جبال الأرض مشهور |
ولـما استتب الأمر للمستعمرين، وكان الأمير لاتـجور آنئذ قد التحق بـمنطقة سَالُومْ عند الألـمامي الـمجاهد مَابَهْ جَخُو بَاهْ حيث ألقى بين يديه قِيَادَهُ وأسلم على يديه ودخل معه في تـحالف، توعَّــد الـمستعمرون مَـجَخَتِ كَلَ بالويل والثبور لـما سبق من هجائه لـهم، ومن ثـمَّ لـم يـجد القاضي حيلة يُــنجي من خلالـها نفسه من توعُّد الـمستعمرين الـمستطير له إلا بنظم قصيدة جديدة يستعطف بـها لكي يتصالح معهم، وهي قصيدة "بشرى لنا"[50] التي نـحن بصددها.[51]
والـحق الذي لا يتنزه عنه أرباب العقول السَّليمة هو أن مشكلة الوثائق الاستعمارية أو ما بات يُعرف بـــ "الأرشيفات"، مشكلة جادة للغاية، لذا يـجب أن توضع تـحت مـجهر البحث العلمي. فالأرشيفات بـجميع حذافيرها هي من صُنع طرفٍ واحدٍ، وهو السُّلطات الاستعمارية وأذنابـها. لـم تكن ثـمَّة إذن للأفارقة الـمستذلين كلمة فيها. وذلك ابتداءً يطرح منطقيا مشكلتين أساسيتين؛ مشكلة المحايدة، ومشكلة الموضوعية. ذلك لأن الـمستعمر كان يـُمثل في ذات الوقت الـخَصم والـحَكم. ومن أجل ذلك، فكل قراءة جادة تطمح إلى الـحفر في أغوار الأرشيفات تـجب أن تأخذ في الـحسبان هاتين الـمشكلتين. ففضلا عن الأهداف الـمادية التي كان الاستعمار يركض وراءها، فإنه - أي الـمستعمر - كان يسير على قدم وساق وفقا لـمنطق الفيلسوف الألـماني هيجل (1770-1831م) الذي ينفي مشاركة الإنسان الأسود في صنع التاريخ الإنساني، كما يسلبه تـماما انضمامه في سلك العشيرة الإنسانية.[52]
في الواقع لقد سبق هيجل، في هذه الذهنية العنجهية الغربية، فلاسفة كبار من أمثال رمز عصر الأنوار الفيلسوف الفرنسي فُولتير (1694-1778م)، ومن سار على دربه، وهم بدون شك كثيرون: مُونتسكيو (1689-1755م)، وجُوزيف آرثر دِي غُوبِينُو[53] (1816-1882م)، وإرنست رينان[54] (1823-1892م)، ...الخ.
يقول مونتسكيو مثلا في كتابه "روح القوانين":
«إن شعوب أوروبا بعد ما أبادت سكان أمريكا الأصليين [وهم الهنود الحمر]، لـم تر بدا من استعباد شعوب إفريقيا لكي تستخدمها في استغلال هذه الأقطار الشاسعة، (...). فإن هذه الشعوب سُود البشرة من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم، مع أنوف مطحونة بحيث يكاد أن يكون مستحيلا أن نـجد ما يدعو إلى الترحم بهم، وإنه لـمن المستحيل أن يصدق الـمرء أن الله بكل جلاله وحكمته قد وضع روحا – وعلى الأخص روحا طيبة – في أجساد حالكة السواد[55]».
من أجل كل هذه الاعتبارات نؤكد أن الإنسان الأفريقي، في نظر السُّلطات الاستعمارية، مُواطن من الدرجة الثانية، أي أن وضعه القانوني كمواطن أدنى من وضع الـمستوطن الأبيض، أي الـمستعمر. وهذا الوضع الثانوي الـمحتقر هو ما اصطلح عليه الـمستعمرون بـــكلمة (indigène)، وتترجم بــ "أهلي". وليس من شك في أن هذه النظرة الـتَّــفوُّقية الاستعلائية هي التي انطبعت بشكل جلي على سائر الأرشيفات.[56] فالإداري الاستعماري حين يكتب تقريره عن هذا "الـمواطن الثانوي" فهو لـم يكن يُـحضر في ذهنه أنه يكتب عن آدمي مـماثل له يتمتع بكل الـحقوق الآدمية، وإنـما كان يرى أنه يكتب عن فرد دونه مرتبة من الناحية العقلية، لذا كانت هذه الإدارة تصدر قراراتـها مـجانا دون الأخذ في الحسبان أنـها تـحكم على فرد له حقوق.
لذا، فيـتعيَّن على كل من ينبري لدراستها أن يضع كل هذه الاعتبارات العنصرية نُصب عينيه وإلا سيظل رهن الأيدلوجيا الاستعمارية رغم ارتـحال أصحابـها عن القارة الأفريقية بأشخاصهم وذواتـهم.
ولنسف دعائم هذه الغطرسة التفوقية الواهية التي دشنها الـمنطق الغربي في العهد الاستعماري، يقول شيخُ الـمُريدين:
وقوله:
فَـليسَ يُوجِبُ سَــوادُ الجِسمِ |
وقوله:
فَـليسَ يُوجِبُ سَــوادُ الجِسمِ |
ولا يفوتنا – هنا – الإقرار بأصالة الولي البَـوَليّ الشيخ أحمد بمبا البكيّ وأسبقيته إلى نظرية "الزنوجة"(La Négritude) وإن كان سيزير (Césaire) وداماس (Damas) وثالثة أثافيهم ليووبولد سيدار سنغور هم الذين حظوا ببلورتها بصفتها أيدلوجيا بكل أبعادها الفكرية والمفهومية حيث مهدوا لها الطريق لترى النور والتصقت النظرية بأسمائهم، وخصصوا لها روايات وأشعارا في قالب زنجي أصيل وموسيقي هزاز، ومقالات جذبت أنظار المثقفين إبان ذلك الوقت. والحق أن فلاسفة الزنوجة هؤلاء قد اكتفوا بالتنظير الأنثروبولوجي الدفاعي والانفعالي، بينما الشيخ أحمد بمبا فقد نحا منحًى براجماتيا صرفا حيث عايش الزنوجة لا على أنها فكرة سريالية مثالية، وإنما بوصفها تجربة وجدانية وعملية في الحياة، ويتمثل ذلك في مواجهته للأيدلوجيا الاستعلائية الاستعمارية بوجهيها النظري والتطبيقي. وعلى هذا الدرب الذي وضع الشيخ الخديم خطوطه العريضة سار من بعده بعض العلماء الأفريقيين في العالم الأنكلوفوني، وأبرزهم "وُولي سُوينكا" (Wolé Soyinka)[61] الذي أكد: «إن النمر لا يتبختر هنا وهناك صارخا بنمريته».[62]
الأستاذ/محمد غالاي انجاي اندام خليل
بروكسل –بلجيكا
الهاتف: 488.463.530-0032
[2] )- لقد تولى وليام بُــــنْتِ منصب الحاكم العام لـمستعمرات فرنسا الواقعة في الغرب الأفريقي (AOF) من عام 1908 إلى عام 1915م.
[3])- Paul Marty, «L'Islam en Mauritanie et au Sénégal», In: La revue du monde musulman, vol. XXXI, 1915-1916, publiée par la Mission scientifique du Maroc, Ernest Leroux, Éditeur, pp. 23-26.
[6] )- Said Bousbina, «Al-Hajj Malik Sy : sa chaine spirituelle et sa position à l'égard de la présence française au Sénégal», Dans: David Robinson et Jean-Louis Triaud, «Le temps des marabouts: itinéraires et stratégies islamiques en Afrique Occidentale française (v. 1880-1960)», pp. 197-198.
[12])- هذا البيت موجود في مـجموعة القصائد الـمسماة بــ "صفرية"، من قصيدته الـمطرزة بــ "صفر هـمسش صَفَرٌ بِهِ".
[14])- تُبَابْ (toubab): هو الاسم الذي يطلقه الولفيون للإنسان الأبيض، والمراد بهم هنا هم النصارى الـمستعمرون.
[15])- اسم المنطقة التي تولى فيها لاتجور الإمارة، وقد حارب من أجل استقلالها ضد القوات الاستعمارية الفرنسية.
[16])- هي معركة (لـُورَ Lora) التي اندلعت بتاريخ 12 يناير 1864م، وقد دارت رحاها بين لاتجور والقوات الاستعمارية الفرنسية بقيادة بِينِيهْ لابْـرَادْ (Pinet Laprade).
[27] )- هو بينيه لابراد (Pinet Laprade)، قائد استعماري شهير، معروف ببغضه للإسلام، حارب كلا من الإمام مابه جَخُو ولاتجور وأحمد شيخو باه.
[29])- كلمة فرنسية تعني "القناصون" (Tirailleurs)، والمقصود بهم الجماعات المكونة من الدول المستعمَرة التي دربها فرنسا عسكريا، وهي المشهورة بـ "تيرايير سنغاليون" «Les tirailleurs sénégalais»، وهي مكونة من سنغاليين ومغاربة وجزائريين.
[30] )- معركة (لوغا Louga) بتاريخ 17 ديسمبر 1869م، دارت رحاها بين لاتجور والقوات الاستعمارية الفرنسية في قرية سالن (Salen) بقرب من مِيخِي (Mékhey) بقيادة كانار (Canard) .
[34] )- معركة (كولكول Ngol-Ngol) بتاريخ 29 سبتمبر 1863م، دارت رحاها بين لاتجور أنْغُونِ لَتِيرْ جُوبْ والقوات الاستعمارية الفرنسية التي جاءت لنصرة حليفه مَاجُوجَ فال (Madiodio Fall).
[37] )- معركة (مِيخِي Mékhey) بتاريخ 9 يوليو 1869م، معركة دارت رحاها بين لاتجور والقوات الاستعمارية الفرنسية بقيادة برينو (Bruno).
[50])- قيل إن استعطاف القاضي بقصيدته هذه كان بعد مصرع الأمير لاتجور على يد القوات الاستعمارية الفرنسية في موقعة "دِقْـلَهْ" الشهيرة بتاريخ 26 أكتوبر 1886م.
[51])- مصطفى جوب الككي، «قراءة أركيولوجية (حفرية) في أرشيفات المستعمر: قصيدة بُشرى لنا لِــــبُـــولْ مَارْتِـــي نموذجا»، بحث لم يطبع بعد.
[52])- Cf. Ses cours sur l'Histoire de la philosophie dans «La Raison dans l’histoire», Collection «Le monde en 1018», Paris, p. 251 et sq.
[53])- جوزيف آرثر دي غوبينو (Joseph Arthur de Gobineau) عالم اجتماعي فرنسي، اكتسب شهرته في كتابه العنصري المعروف تحت عنون "عدم مساواة الأجناس البشرية" «Essai sur l'inégalité des races humaines»، هذا الكتاب الذي كتبه فيما بين (1853-1855l) جعله يتصدر مركز الأب الروحي كل الدراسات العنصرية. ولقد عُرف أيضا بتورطه الشديد في خدمة الأهداف الاستعمارية ببحوثه ودراساته في علم الاجتماع.
[54])- جوزيف ارنست رينان (Joseph Ernest Renan) عالم فرنسي تأثر بفلسفة شارل داروين في نظرية التطور، الأمر الذي حدا به إلى ربط الأديان بأصول الأجناس البشرية وبمواقع وجودهم الجغرافية. أثار غضب البابا (Pie IX) في كتابه المعنون بــ "حياة المسيح"، هذا الكتاب الذي اعتبره البابا "تجديفا أوروبيا"، وتـم إثره إلغاء دروسه في الجامعة عام 1864م. له مناظرة شهيرة مع السيد جمال الدين الأفغاني في موضوع الإسلام والعلم. وقد قام الدكتور محمد عثمان الخشت بترجمة هذه المناظرة إلى اللغة العربية في كتاب تحت عنوان "الإسلام والعلم بين الأفغاني ورينان".
[55])- Cf. Montesquieu, «De l'Esprit des Lois», Tome I, Livre XV, chapitre V. éd. Gallimard, Collections Folio, 1995, Paris.
[56])- ويـجب اللحاظ هنا أن هذه النظرة الغربية الـمزدرية إلى حد كبير للإنسان الأسود، والتي تسعى قُدُما إلى بتره من تاريـخه وحضارته مازالت رواسبها راسخة ومتجذرة في أذهان بعض الغربيين. ولسنا نشك بالمرة في أن خطاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الـملقى في جامعة شيخ أنتا جوب بدكار في شهر يوليو عام 2007م لـمن أقطع الأدلة على بقائها واستمرارها إلى اليوم. ولقد قام رهط من العلماء بالرد عليه يطول ذكر أسمائهم، إلا أننا نكتفي هنا بإيراد الملاحظة الظريفة التي أدلى بها دافيد روبنسون متهكما بها على ساركوزي، وهذه الملاحظة الناقدة جاءت في معرض إشادته بالأدوار الرائدة التي لعبها أنصار الاتجاه المسالـم من أمثال الشيخ أحمد بمبا والحاج مالك سه والشيخ عبد الله انياس تجاه الاستعمار، يقول: «لقد وقف في وجه هؤلاء المثقفين المسلمين عدو جديد وهو فرنسا الامبريالية التي لا تقاوم من الناحية العسكرية، والمتغطرسة بأيدلوجيتها. وهذه الغطرسة لـم تغب بعدُ، إن كان لي فهم، ولكم أنتم – أي الأفارقة - أحدث خبرة عن ذلك في هذه الصالة حين أُخبرتم أن الفلاحين الأفارقة ظلوا منكبِّين على سبات عميق منذ آلاف السنين بدون حضارة وبدون تاريخ. في اعتقادي، كان من الممكن أن يقول مالك سه وأحمد بمبا [اللذان اهتما بتربية الأجيال وتعليمها] دَعُوا هؤلاء الجاهلين ينكبُّوا على جاهليتهم وخلوا السبيل لله فإنه، مع مرور الزمن، سيتولى تنويرهم وإيقاظهم». انظر درسه الملقى في 15 نوفمبر عام 2007م بمناسبة حفلة تكريمه بالشهادة التقديرية، وكان ذلك أيضا بمناسبة مرور خمسين سنة من إنشاء جامعة شيخ أنتا جوب بدكار، وعنوان الدرس هو "مباشرة الجهاد الأكبر":
Leçon donnée le 15 novembre 2007 par le professeur David Robinson, lors de la cérémonie de la remise de Diplôme de Doctorat de Honoris Causa de l'université de Cheikh Anta Diop de Dakar. Intitulée: «Faire le plus grand Jihad».
[58])- من كتابه في الصلاة على النبي مـحمد (ص) الـمسمى بــ "مقدمة الخدمة في الصلاة على نبي الرحمة" أو "مفتاح السعادة في الصلاة على خير السادة"، ص. 97. مـخطوط.
يا شيخ لو توقفنا على القصيدتين لكانت أفضل ، ونرجو من سماحتك إيرادها هنا مقرونة بالتوضيح إن كانت عندك
ردحذف